
ممارسة السلطوية على المرضى: حينما تصبح شكاوى النساء المتعلقة بالصحَّة فرط حساسية
"لماذا تُحوِّل مهنة الطب الإنسانَ إلى كيان سلطوي؟"، ظل هذا السؤال يطرق رأسي طوال اليوم الذي انتظرت فيه أكثر من ست ساعات لأخضع لفحصٍ طبيّ في إحدى مستشفيات القاهرة، وبعد ساعات الانتظار، جاء دوري أخيرًا.
كان الطبيب متغطرسًا ولا يرى داعيًا من إخضاعي للفحص المطلوب، وما أن اطلع على أوراقي الطبية حتى حادث من حوله بالإنجليزية فيما معناه أن الفتيات في هذا العمر يكثرن الشكوى الزائفة، ظانًّا أني لن أفهم كلامه، حين يغير لغته العربية. رغم أنه قبل أن أصل إليه، كنت قد زرت -لهذه الشكوى فقط- طبيبين مختلفين، كلاهما كتب تقريرًا حول حالتي، ثم خضعت لتقييم آخر من قبل لجنة أطباء كاملة، كانت هي المخولة بتحويلي لإجراء الفحص في هذا المكان البائس على وجه التحديد.
أصرّ الطبيب على أن أكشف أجزاء من جسدي أمام كل طلابه وغير طلابه الذين في الغرفة، ليس بداعي الفحص ولكن ليثبت لي ما أعرف الآن يقينًا أنه قد أخطأ فيه، بل تمعن في خطئه. وبعد هذه المذلة، قرر إخضاعي لفحص آخر، مخبرًا والدتي أن هذا هو المطلوب، وقد كنت أعرف أنه ليس ما طُلب في التقرير الذي بين يده، لأنه ليست المراهقات بهذه السذاجة كما يظن، ولعل السبب البدهي لهذا أنني كنت المريضة الأخيرة، والفحص الأصلي سيستغرق الكثير من الوقت.
وحتى مع هذا، لم يأت الفحص الذي أجراه سليمًا كما ادّعى أنه سيكون، ولم يجعله ذلك يتخلى عن نبرته المستعلية وهو يقول: "آه، طيب عادي، نكتب دوا ونشوف"، بلا أي مبالاة. في لحظة ما خلال هذا السيناريو، كنت قد وصلت لحافة الانهيار، وصرخت في وجهه بكلام كثيرٍ، مفاده أنني ما اخترت علتي، ونزلت إلى الشارع مسرعة، أذرف دموعي بين السيارات، ولست منتبهة لشيء حولي، حتى استعدت توازني وعدت لأنتظر والدتي أمام باب المشفى.
هذا اليوم، كلما تذكرته، لم أستطع كبح دموعي، لأنه وخلال سبع سنواتٍ من التردد على الأطباء بأعراض مختلفة، وتشخيصات متعددة لم يكن من بينها إلا القليل الصائب، لم تكن تلك المرة الأولى التي يتم فيها التقليل من شكواي بشكل جليّ لأنني "أنثى"، حتى من الطبيبات الإناث أنفسهن.
ورغم أنني بعد رحلة مضنية صرت أعرف سبب كل الآلام التي مررت بها، حيث اتضح أنني ورثت متلازمة ما من والدي، وتحملها أختي الصغرى كذلك، وتسبب عددًا غير محدود من الأعراض المتفاوتة في شدتها. إلا أن كونه تشخيصًا يستدعي اختبارًا يمكن إتمامه بالمنزل، وسهل الملاحظة، كان قاسيًا. ومع هذا، لا ألقي باللوم على عشرات الأطباء الذين لجأت إليهم والذين لم يلتقطوا أصل المشكلة -وحتى الطبيبة الواحدة التي أخبرتني عنها بشكل مبهم، كانت قد قابلتني بفم سامّ هي ومساعدتها بادئ الأمر، فقط لأنني أتيت لها من خلال طبيبة في غير تخصصها كانت تظن أن لدي مشكلة أخرى تراها هي مستبعدة بالكامل-، ولكن موطن الانزعاج الكامل وعدم الفَهم؛ أنهم لم يصدقوني تارة، أو تسرعوا عن غير تريث تارة وهم لا يقبلون التشكيك للحظة في ما هم على قناعة به، حتى جربت من الأدوية ما جربت دون داعٍ.
لم أكن في أي من المرات التي زرت فيها طبيبًا أنتظر إجاباتٍ جاهزة، كنت فقط أود أن أقابل إنسانًا يؤهله علمه في البحث عن ما يدعوني للاستيقاظ كل يوم وأنا أعاني من ألم جديد، وإن لم يستطع، يشعرني بالأسف على ذلك، ولا يتهمني بالادعاء.
لا أدري لماذا تغذي بيئة الأطباء فكرة وجوب "تحمل الألم" خاصةً بين النساء، فما المشكلة إذا كانت دورتكِ الشهرية تعيقك عن ممارسة الحياة اليومية لأيام عديدة؟ ولماذا تبالغين في وصف الألم هكذا؟ لا بد من أنها فرط حساسية.
قبل الحادثة السابق ذكرها بسنوات، وفي بداية رحلتي المرضية، كنت أعاني آلامًا عنيفة في فكيّ، زرت طبيبة كبرى، عن توصية من طبيبة الأسنان التي كنت أتابع معها وقتها، وبعد انتظار، لساعات كذلك، لم تر وجهي، لم تلمس فكي، لم تسألني حول طبيعة الألم، لم تطلب أشعة، قالت أن هذه الآلام نفسية، ووصفت لي مضاد اكتئاب. اتضح فيما بعد كذلك، أن فكي يتحرك بشكل زائد عن الطبيعي مع الاستخدام حتى يصبح في غير مكانه جزئيًّا مما كان يستدعي نوبات ألم غير محتملة.
للأسف فإنني أدرك تمامًا أن "ممارسة السلطوية على المرضى" من قبل بعض الأطباء، لا يقع على النساء فقط، لكنني اختبرت بنفسي، أن نفس نوع الألم الذي تسببه نفس المشكلة، بين رجلٍ وامرأة، يتم الانتباه له أولًا في غير المرأة. لماذا؟ لأننا -كما يبدو- من الحتمي أننا نشعر بالألم بدرجة أقل من التي نظهرها.
لا تبدو هذه ظاهرة مقتصرة على البلدان النامية، مما يجعلنا نفكر في إرجاعها لأسباب مثل ضعف المنظومة الطبية أو عدم توافر الرعاية الكافية لأعداد ضخمة من المرضى بدلًا من اعتبارها سلوكًا متكررًا للأفراد الممتهنين بالطب أنفسهم، وأقتبس من مقال نشرته The New York Times بعنوان: "عندما يقلل الأطباء من مخاوف النساء تجاه صحتهنّ"، للدلالة على هذه الظاهرة:
"إن البحث عن الفوارق بين كيفية معاملة النساء والرجال في الأوساط الطبية آخذ في الازدياد -وهذا أمر يثير قلق أي امرأة تسعى للحصول على الرعاية-. تظهر الأبحاث أن الأطباء والممرضات على حد سواء يصفون للنساء مسكنات ألم أقل من الرجال بعد الجراحة، على الرغم من أن النساء أبلغن عن مستويات ألم أكثر تواترًا وشدة. ووجدت دراسة أجرتها جامعة بنسلفانيا أن النساء انتظرن 16 دقيقة أطول من الرجال لتلقي مسكنات الألم عند زيارتهن لغرفة الطوارئ. من المرجح أيضًا أن يتم إخبار النساء بأن آلامهن "نفسية جسدية" أو متأثرة بالضيق العاطفي. وفي دراسة استقصائية شملت أكثر من 2400 امرأة تعاني من آلام مزمنة، قالت 83 في المائة إنهن شعرن أنهن تعرضن للتمييز بين الجنسين من مقدمي الرعاية الصحية."
اليوم، ورغم احتياجي للجوء للرعاية الصحية لأكثر من مشكلة تقيد رغباتي الحياتية، لا أعرف فقط أنني لن أجد من يفهم المشكلة بالشكل الكافي لأنني أعاني من مشكلة نادرة تدير لها المنظومة ظهرها كأنها ما وجدت، لكنني أعرف كذلك أنه سيكون عليّ دفع وصمة غير مفهومة، بأنني لا أدعي الألم، وبأنني لا أرغب أن تطأ قدماي عيادة أو مشفى. وأوقن أن الوقاية من سلطوية الأطباء على تحديد "درجة الألم" الذي أشعر به، أكثر أمنًا من الوقاية من المشكلات الصحية التي أدفعها عني بشكل يومي، مهما قست.