
استئناسٌ دائم أو خوف لا يهدأ: لماذا يتحتم علينا قولبة الأمومة دائمًا؟
"على وشك الأمومة". هكذا أُعرّف نفسي لنفسي منذ بداية رحلة حملي الأول، الرحلة ذات التفاصيل التي لا تحصى مهما حاولت أن أحصيها وهي بعد ما تمت. لم أستغرق وقتًا طويلًا بعد زواجي حتى علمنا بالخبر، ما جعلني أقضي الثلث الأول من الحمل كله تقريبًا أفكر فيما إذا كان أمرًا يستحث تنظيمًا أكثر دقة للانتظار لبعض الوقت. ثمّ أدركت أن مبالغتي في مداولة هذا الشعور هو محض تأثر بأن كل الأشياء تَجِدُّ على جسدي دفعة واحدة؛ فلا أشتهي طعامًا، ولا أطيق رائحة، وتتعطل أبسط مهامي اليومية... فلو أنني لم يكتب لي ذاك الرزق إلا بعد أعوام لجزمت أن نفس المبالغة كانت ستحدث، وسأشعر أنني ما زلت أصغر.. أو أدنى تحملًا من سرعة تغيرات الحمل التي تباغتني.
أحاول أن أتعلم شيئًا فشيئًا عن الأمومة، هل هي شيء نتعلمه أصلًا؟ أؤمن أن كل سياق اجتماعي يفرض على المرء في حياته يتوجب عليه تعلم كيف يتعامل معه. نعم، هناك جزء كبير يأتي طبيعيًّا تلقائيًّا، لكننا نتعلم كيف نكون أبناءً صالحين، وأصحاب يحفظون العهد، فما الذي يمنع من تعلم الأمومة؟!
حسنًا.. الأمومة أثقل من أن نتفادى صدماتها بالمعرفة. أقول هذا قول مشاهد، بيقين مجرب. لكنني لا أود أن أتعلم لتفادي الصدمات، فقط أن أعرف نموذجًا بسيطًا للحياة أتمكن أن أشرك طفلي القادم فيه، لا أن أبني النموذج الحياتي بشكل كامل وفقًا للسياق الاجتماعي الجديد!
في الغالب ينشأ الخوف من الأمومة لأن المجتمع، بشكل ما، يتوقع تكريس الوالدين -أو الأم فقط- حياتهما لمتطلبات القادم الجديد. ورغم كثرة المتطلبات التي تجعل الأطفال محورًا بالفعل، لكننا ننسى هدفًا رئيسًا من الإنجاب، أن يؤانسنا فطرة نقية، ويصخب بيتنا بأفراد يكتشفون كل شيء للمرة الأولى، فندرك معهم كل مرة أن شيئًا في هذه الحياة مثير للاهتمام، مهما فقدنا نحن الكبار اهتمامنا بها. ناهيك عن المنظور الديني والذي لا أتعمد إغفاله هنا لكنني أتوقعه بدهيًّا لمن يهتم.
وفي معنى مصاحبة الأطفال ذلك، أن لدينا شكل ما من الحياة قبل قدومهم، نتوقع أن يضطرب كثيرًا بالأفراد الحادثين على الأسرة، لكننا شيئًا فشيئًا نعدل في ذاك النموذج فنتآلف مع التغير حتى يستقر لدينا شكل جديد، ربما ليس براحة الأول، لكنه ليس من المفترض أن يكون خالٍ من الراحة بشكل تام.
وأعرف أن الكثير سيرى كل هذا كلام نظريّ. ليس لأنه صعب الحصول، لكن لأن سياقات الحياة التي نعيشها مختلفة بشكل كبير، فالأم تغرق في اكتئاب الحمل وما بعد الولادة لوجود أب غير مبالٍ، أو ظروف حياتية غير مناسبة، أو تخيّل لنمط أكثر سهولة لم يتحقق. لكن هذا لا يشوب الأمومة نفسها بكونها خوف لا يهدأ، أو راحة منتظرة، غير أن سيولة التعبير الإنساني في عصرنا جعلت القولبة أمرًا حتميًّا، فلو لم يلازمك القلق كظلك لإقبالك على حياة جديدة لاتُهمت بتقصير ما في حق نفسك. يجب أن تغرقها بالقلق لكي "تبدو" على قدر مسؤوليات الإنسان الحديث، أو تمضي في طمأنينة غير واقعية لتتجنب الأحكام السطحية الجاهزة من الفئة الساذجة الأخرى التي ستقابلها.
وأنا على وشك الأمومة، لا أريد أن أخاف طوال الوقت، ولا أن أخدع نفسي بكون الأشياء سهلة. أريد أن أكون أمًّا، كما حاولت أن أكون ابنة، وأخت، وصديقة، وزوجة. أريد لدائرتي الاجتماعية أن تتعرف على معنًى جديد، ربما هو المعنى الأكثر كثافةً الذي سأختبره في حياتي، وأحتاج أن أفعل ذلك بأقصى هدوء ممكن، ولو كان ذلك يعني أستذكر كل ثانية ما جدوى ألا يكون الإنسان وحيدًا في هذه الدنيا، وأن يبذل لغير نفسه، ولو كان ذلك حتى بوجبة طعام لغريب لا يعرفه، ينظر له بعدها بشيء من الرضا عن أيام ستفنى! فما بالك ببذلٍ متفانٍ لكائن سيظل لبعض الوقت لا يعرف إحسانًا غير الذي يأتي منك؟
لا أحد يقدر على الكمال في العلاقات الإنسانية، ولو كان سعيي نحو إنجاز وحيد في علاقة الأمومة، فستكون أن أظلّ وجهة عاقلة حنون لأبنائي. وجهة قد لا تتمكن دائمًا من أن تكفيهم الأذى المادي للدنيا، لكنها قد تخفف عنهم شيئًا من ثقله المعنوي، ليتمكنوا من أداء نفس الدور عند تكرار الدائرة.
الأبناء المثاليون ليسوا بالضرورة عن آباء مثاليين، والعكس. والمثالية تعبير واسع مطاط لن يتوافق عليه اثنين تحصّلا التجارب نفسها. لذا فإن الاستماتة الوحيدة التي تستحق كل الجهد أن تكون الأسرة كلها تحاول البقاء على خطّ السواء الإيماني، وهو خطٌّ قابل للتعرجات ثم إعادة الاستقامة طوال الوقت، لحسن الحظ!