كتاب (في ظلال رمضان): تأمل في المسيرة التعبدية الرمضانية
التعريف بالكتاب والكاتب
في ظلال رمضان هو أحد مؤلفات د. هبة رؤوف عزت أستاذة العلوم السياسية والمفكرة الإسلامية. يأتي هذا العرض من خلال الطبعة الثانية للكتاب والصادرة في يوليو 2014 عن دار نهضة مصر للنشر، في 126 صفحة مقسمة إلى 21 فصلًا أو تأملات في معانٍ إسلامية؛ قرآنية ورمضانية.
رمضان مدرسة جامعة
قد يكون ثمة تساؤل ملح على الكثير منا كل عام، وهو: لماذا رمضان؟ يعني لماذا نصوم هذه الأيام المعدودات، بل ونخصها كذلك بعبادات أخرى يعظم أجرها في هذا الشهر عن كل أيامنا الأخرى؟
في إجابة قد تكون غير مقصودة، تجيب المؤلفة عن هذا السؤال حيث تشير إلى كل تلك المعاني التي يجددها رمضان في نفوسنا. فهو يقوي صلة العبودية بين العبد وربه بأداء الصيام، لأنه متى اتبع المسلم أمر الصوم مسلمًا به ومتخليًا عن شهواته برضا، فهو بذلك يبتغي مرضاة الله ويسعى إليها ويؤكد على عبوديته الكاملة واستسلامه لأوامر الله -سبحانه وتعالى-.
إن المسيرة التعبدية الرمضانية هي بمثابة تكليل لاستيعاب المسلم لشعائر الإسلام، فهي تجمع بين مقاصد التعبد المختلفة، وتؤكد على أهمية كل من النموذج الفردي في الإسلام والنموذج الجماعي على حد سواء، فالصوم في ذاته عبادة فردية، ورمضان هو سعي الشريعة لجمع الناس على هذه العبادة!
جهاد لا رهبانية
كل يوم في رمضان سعي هو متجدد لترويض الجسد والرغبات، فالامتناع عن الطعام وعن الشهوات لساعات طويلة يتعارض بشكل واضح مع الطبيعة الإنسانية التي تميل إلى الاستمتاع بالدنيا ويحثها الشيطان والنفس على ذلك. ومع كل هذا السعي فإن المؤلفة تؤكد على فكرة أن منطلقه ليس الرهبانية، فلا رهبانية في الإسلام (والرهبانية تعني التخلي عن الدنيا والزهد فيها والابتعاد عن البشر والتفرغ الكامل للعبادة)، وإنما منطلقه "الجهاد المتجدد المشتبك مع الكدح"، والتأكيد على معنى الغيب والإيمان بثوابٍ لم نره في عالم غارق في المادية واللذات سريعة الحصول قصيرة المدى.
رمضان كوسيلة إيمانية لتقدير قيمة الوقت
يأتي رمضان كل عام فيكون لنا رسالة تذكرنا بأن أيام المسلم لا تتشابه، وأن للوقت خصوصية في الإسلام تميزه عن فلسفة المادية التي تعنى بالمادة وتهمل دور الإنسان أو الزمن، وفي هذا السياق والمعنى نقتبس من الكتاب:
"يصوم المرء في رمضان ويجاهد جهاد النفس في موسم من مواسم المغفرة، فيدرك أن الزمن ليس آلة ميكانيكية تدق في إيقاع رتيب، بل هو فيض من اللحظات وعطاء من الإشراقات، وهو رأسمال العمر.. ومنه ليلة هي بعمر.. فيملأ أيامه ولياليه بالطاعات، والاستغفار عمَّا فات".
وفي خضم ملل الأيام الذي يعتري كل إنسان، يأتي رمضان ليذكرنا بالغاية، فيكون كل فِعلٍ فيه مجردًا من النظر إلى الدنيا، ومنصبًا كل التركيز على الآخرة.
بين "نحن" ورمضان.. و"أنا" ورمضان
يتكرر في الخطاب القرآني لفظة "أنفسكم" بصيغة الجمع، وهو ما يدعونا للتفكر مرارًا في نظرة الإسلام لمركبات المجتمع وللإرادة الفردية في مقابل الإرادة الجماعية ورغبات التغيير المتكاتفة.
تنبه د. هبة رؤوف في هذا السياق على "أن تغيير النفس قد يعين عليه صلاح الجماعة ويعوقه فسادها"، فالمجتمع الإسلامي لا يقوم على الفردانية، ولذلك تعظم فيه حكمة الأمر بالمعروف والنهي على المنكر. وكم نعتقد أن الانتباه لأحوالنا الشخصية هو السبيل الأقوم لمجتمع خالٍ من الرذائل والسفه، وننسى أنه يتوجب علينا الانتباه لأنفسنا في السياق "الفردي" والانتباه لها في سياق "الجماعة"، وهذه الجماعة -كما وضحت الكاتبة-: "ليست فقط مجموع الأفراد، بل عالم الأشخاص في تفاعله مع عالم المؤسسات والأحداث والعلاقات، وكذلك تعامله مع الهياكل الحديثة من أبنية اقتصادية واتصالية تشتبك بشكل لصيق بالفرد والجماعة".
أما عن "أنا" ورمضان، فإن أيام الشهر التي تبعدنا عن المنطق الاستهلاكي اللاهث وراء كل شيء وأي شيء تقربنا أكثر من أنفسنا، ومن الذات التي كانت قد طحنتها أيام الحياة فلم تترك لنا فرصة للانتباه لها، ما مكوناتها؟ خريطة المفاهيم والمشاعر والأحاسيس التي تمثلها؟ تاريخها والأزمنة المتراكمة فيها؟ الأمكنة التي صنعت صورة الشخصية المادية منك؟ ماهية العقل الذي يدير عجلة هذه المكونات المختلفة؟ لغتها ومنطق تعبيرها؟ ماهية الجسد الذي يسعى؟ الأشياء التي هي جزء منها تشكلها وتتشكل من خلالها؟
"من أنت" يظل سؤالًا ضبابيًّا طوال العمر، "سؤال مفتوح على الكون ومبني للمجهول"، وقد تكون الروحانيات الرمضانية وسيلة لتحليل الأسئلة المختلفة التي تشكلك، ولو لم تحصل على الأجوبة.
يبدأ التوحيد بـ "لا"
تتأمل الكاتبة في لاءات القرآن الكريم، بين لاءات النهي ولاءات الرحمة. وأول الطريق ومنتهاه: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ} (سورة محمد: 19)، وعلى (لا إله إلا الله) تترتب مبادئ أساسية.. {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (البقرة: 256).. {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} (البقرة: 286).. {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} (الإسراء: 15).
ثم هناك تلك الـ "لا" الجديرة بالانتباه، وبتركيز السعي على الغاية: {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}!
حرية الاختيار في المعنى القرآني
"الحرية في القرآن كامنة في صيغ السؤال، وفي حركة العقل نحو المعرفة من أجل حرية الاختيار. ولا نبالغ إذا قلنا إنه في البدء كان السؤال" منذ سؤال الفطرة الذي أخذه الله من ظهور بني آدم قبل خلق الأجساد: ألست بربكم؟
روى أبو داود في "السنن" (رقم 4716) –وصححه الألباني- قال: حدثنا الحسن بن علي، حدثنا حجاج بن المنهال، قال: سمعت حماد بن سلمة، يفسر حديث (كل مولود يولد على الفطرة) قال: " هذا عندنا حيث أخذ الله عليهم العهد في أصلاب آبائهم، حيث قال: (ألست بربكم قالوا بلى) [الأعراف: 172] ".
أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ؟!
من ضيق الذات إلى رحابة الإنسانية
يربط رمضان المؤمن بالكون كله ويجدد صلته بالأشياء من حوله فيكون واعيًا أكثر من أي وقت مضى بدوره ومسؤوليته كجزء من هذا العالم ومن هذه الأمة. تتجدد المعاني المختلفة في نفسه، فلا معنى يتوثق دون معايشة وطبيعة اليوم الرمضاني تحتم على المرء أن يعيش مع مقاصد الشريعة حتى يثبت في نفسه ما كان مضطربًا، وينمو ما كان ذابلًا.
قد ننفك عن المعاني التي نقصدها بسبب ما يؤول إليه الواقع، لكن تظل حالة السواء الأصلية: أن يخرج المرء من ذاته الضيقة إلى عالم الإنسانية الرحب، فبدلًا من أن تمتلئ الموائد في البيوت يتصدق على الفقراء، وبدلًا من أن نبحث عن وسائل إضاعة الوقت حتى لا نستثقل العبادة نبحث عن وسائل استثماره حتى تثمر العبادة.. ويظل الجهاد مستمرًا، ما كان الإنسان..
دين عدل أم حرية؟
تطرح الكاتبة الجدل القائم حول هذا التساؤل والذي تطرحه التوجهات المختلفة على الإسلام، فهل العدل هو الأولوية أم الحرية في فكر د. هبة؟
تجيب أن الخلاف لا يستلزم تحديد قيمة مركزية، وأن الإسلام ليس مطالبًا بأن يكون محض توصيف أيديولوجي. فالاختيار إذًا مضلل، ولا حرية دون عدل! ولا عدل دون إمكانية ممارسة الحرية الفردية التي تضمن للمرء ممارسة فكره الذي لا يؤذي دون ترويع وترهيب.
وبالعودة إلى القرآن فإننا نجد أن مدار هذا الدين -كما ترى الكاتبة- هو مفهوم الرحمة، وهو مفهوم شامل جامع لكلا معنيي العدل والحرية، وهي الخصلة الملخصة كذلك لكل خصال الرسول -صلى الله عليه وسلم-.
حتى لا يؤدي الإلف إلى النكران
يرسخ صوم رمضان قيمة ما اعتاده الإنسان واستسهله في غيره، فيتذكر كل يوم نعم الله عليه ولا ينسى شكرها، فإن إلف المرء للنعم قد يؤدي إلى نكرانها أو عدم تقدير معنى أنها رزق من الله فيها، فيمتنع عنها تمامًا. حتى قطرة الماء الواحدة، عن قصد، تفسد تعبده.
أزمنة رمضان المتعددة
يكتسب الزمن قيمته من وجودنا فيه، وتحفظ لنا الذاكرة اللحظات التي تمر علينا، ليتجلى فعل المحاسبة للنفس، والمراجعة للفعل والقول. والمتأمل في رمضان يجد أنه ليس زمنًا واحدًا وإنما أزمنة متنوعة، أولها المجاهدة، ومنها زمن الجماعة، الأسرية أم الأكثر شمولًا كانت، وزمن الوحي حيث نرتبط فيه بالقرآن ارتباطًا يعوض هجر باقي الشهور، وزمن اللحمة الاجتماعية التي تتمثل في فعل الزكاة أو الصدقات التي ترتبط بالشهر مثل موائد الرحمان، أو حتى اللحمة بأفعال الإحسان.
"وهو شهر أوله رحمة وأوسطه مغفرة وآخره عتق من النار".. (رواه ابن خزيمة في صحيحه).
وتتجلى في هذا الحديث معنى الأزمنة أيضًا -تناولته الكاتبة بوصف المدارس-، ففي أيامه الأولى زمن الرحمة، حيث أن الغاية من التعبد لا فردانية وإنما لغاية تراحمية، بين الإنسان والآخر، وبين العبد وربه.
وفي أيامه الوسطى زمن المغفرة -وكل أيام الله مغفرة!-.. ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟ رغبة تتجدد في أيام معدودات، وسعي حثيث لكظم الغيظ وحفظ اللسان والكف عن الشهوات، لأننا نحب أن يغفر الله لنا..
أما الختام؛ فعتق. وهو معنى غيبي، نجدد من خلال تعبدنا طوال أيام الشهر الإيمان بالغيب، وبالجزاء الحسن، ولو لم نراه، فنعمل بمبدأ الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
رمضان.. بين ضجيج الصور ومدارج الإحسان
مثل كل شيء في عالمنا اليوم، يتحول رمضان إلى مادة إعلامية، تقوم على الصور البراقة، وتخلو من المعاني البناءة. يتم قولبة الشهر الكريم في المسلسلات، ويغدو موسم إعلانات من أشد المواسم طلبًا على مدار العام، ويتحول إلى موسم استهلاكي كذلك من كل السلع، وبموائد إفطار تتبنى مبدأ الإسراف في كل شيء فتفسد معاني الصوم المختلفة التي يقوم أساسها على تهذيب الشهوات، ولكي نستطيع العبور من "ضجيج الصور" الزائفة في رمضان، علينا أن نسعى إلى "مدارج الإحسان" الحقيقة في ديننا، فالإحسان فعل دنيوي يقود إلى منزلة عليا في الآخرة، هي الحسنى: لَّلذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ ۖ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ ۚ أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) (سورة يونس).
ما بعد رمضان.. احتفال وافتقاد
تصل الأيام المعدودات إلى منتهاها، ويكون حقًّا لنا الاحتفال بالعيد، الذي هو بمثابة يقين وتذكر للمعاني الرمضانية، وليس بمثابة أيقونة تحصر المعاني في قالب جاف لا يتجلى فيه الفعل مكتملًا ليعكس المنظومة الإسلامية على الوجه الصحيح.
وأخيرًا.. فإن "رمضان ليس شهر عتق الأفراد من النار فحسب، إنه أيضًا شهر عتق الأمة من غرور الدنيا مع ردها في الوقت نفسه للوعي بحضارتها وحضورها في العالم، وهو مَعِينٌ لا ينضب من المعاني التي تقترن بمقاصد الشرع، فإن أقامت الأمة صيامها كما تقيم صلاتها وتفعل زكاتها، ووفت بشروطه، كان من حقها أن تحتفل بعد جمعاء.. بأيام عيدها".
هذه المراجعة هي من وحي معاني الكتاب دون التقيد بكامل النص، والاقتباسات الكاملة وضعت بين قوسين، وعلى كلٍّ؛ المراجعات هي دعوة للقراءة الكاملة للمؤلفات، ولا تغني عنها.