كيف يعيد (الكورونا) أنظمة التعلم لمسارها الصحيح؟

كيف يعيد (الكورونا) أنظمة التعلم لمسارها الصحيح؟

بداية التفكير في خلل النموذج القائم 

منذ أن استولت جائحة فيروس "كورونا" المستجد على كل الاهتمام من المجتمعات، وكان لزامًا على المسؤولين في كل دول العالم أن يتخذوا القرارات التي تحدّ من الانتشار، جاء على رأس هذه القرارات -بطبيعة الحال- تعليق الدراسة النظامية وكافة الأنشطة المصاحبة لها. 

صادف توقيت التعليق، في مصر خاصةً؛ اقتراب اختبارات نهاية العام. وبالطبع فإنه ليس من الممكن أن يتم إلغاء الاختبارات بشكل كلي، والاكتفاء مثلًا بنتيجة الفصل الدراسي الأول، خاصة في النموذج النظامي المصري الذي يعتمد في التقييم على الاختبارات الأكاديمية البحتة، ويخلو من وسائل التقييم المتدرجة طوال شهور الدراسة، ولذا فإن الإلغاء المباشر سيخلق معضلات متعددة سيكون على الحكومة أن تبحث حلولًا أخرى لها وهو ما يزيد تفاقم الوضع، مثل: ما مصير الطلاب الراسبين في الفصل الدراسي الأول؟ كيف سيجري انتقال الطلاب الذين تتم اختباراتهم في نهاية العام فقط إلى صف دراسي جديد؟ كيف ستضمن المؤسسات الحكومية تحصيل الطلاب للمحتوى المقرر للعام؟ وغير ذلك الكثير. 

بعد العديد من التصريحات المترددة، والتي جاءت بشكل تدريجي للمراحل التعليمية المختلفة، كان القرار النهائي باعتماد نظام التقييم عبر الأبحاث (أو عبر الاختبارات الإلكترونية لبعض فرق الكليات) فيما عدا أعوام التخرج من المرحلة الثانوية والجامعية على حد سواء، فتتم اختباراتهم وفقًا للطريقة التقليدية -حتى الآن-. 

والسؤال هنا؛ هل كان يجب أن يكون القرار صعبًا إلى هذه الدرجة لو أننا في سياق تعليمي إنساني.. أي يراعي احتياجات المتعلم بالدرجة الأولى؟ 

تتمثل هذه الأهداف في: التذكر، وهو مرحلة التلقي الأولى للمعلومات المستحدثة على معرفة المتعلم، الفهم ويتم في هذه المرحلة ترك المساحة الكافية للمتعلم للاستيعاب والتعمق في المعرفة التي حرص على حفظها في ذاكرته في المرحلة الأولى، وبعد ذلك التطبيق، بمعنى ألا يكتفي على فهم المحتوى وإنما يسعى لعمل نماذج تطبيقية عملية، ثم التحليل وهذه العملية تتم بناء على تطبيقاته حيث يستنتج منها أهم المعطيات، ثم التقويم، ولا يندرج تحت عملية التقويم -أو التقييم- الشكل التقليدي للاختبار وإنما هناك مئات الوسائل المعترف بها عالميًّا والتي تختلف مناسبتها للمحتوى من مجال إلى آخر.  

وفق تصنيف بلوم لأهداف التعلم Bloom's Taxonomy، فإن تصميم المحتوى الدراسي للطلاب يجب أن يراعي الوصول إلى أهداف هرمية (ذات تسلسل معين) حتى يضمن واضعو هذا المحتوى استيعابه الكامل من قِبل الطلاب، بالإضافة إلى منحهم الحق في الحصول على عملية تعليمية ذات تدرج عادل في النمو ودون إغفال لمرحلة من المراحل التي يحتاجها المتعلم للتمكن من المحتوى. 

وفي النهاية يجب أن يكون المتعلم قادرًا على (الابتكار) أو ما يمكن أن نطلق عليه الإسهام العلمي، فلكي تظل عملية التعلم مستمرة، يجب أن تكون هناك مدخلات جديدة دائمًا في المحتوى. 

تصنيف بلوم لأهداف التعلم

وإذا قمنا بإسقاط بسيط على النموذج المصري، سنجد أنه يتم تصميم مناهج تربوية تعتمد على الانتقال السريع من هدف (المعرفة) إلى هدف (التقييم) مع عدم المرور بكافة الأهداف الموجودة في التصنيف. مع ضرورة الإشارة أن تصنيف بلوم ليس التصنيف الوحيد لأهداف التعلم، إلا أنه في كافة التصنيفات التي تقدر مشاركة المتعلم في صياغة رحلة تعلمه، وتراعي احتياجاته، فإنها تعتمد بشكل أساسي على أهداف قريبة من أهداف تصنيف بلوم باختلاف الترتيب ربما. 

إذًا؛ فإن الإجابة على التساؤل الذي سبق طرحه حول سبب اللغط الحاصل حول وسائل التقييم مع ضرورة إلغاء صورة التقييم المعتادة، وحول تردد وزارة التعليم في اتخاذ القرارات، فإننا ندرك أنه لو لم يكن هناك خلل في النموذج الطبيعي، وأنه لو كان المتعلم في المؤسسات الحكومية يتلقى محتوى يراعي احتياجاته سواء على مستوى نوع المحتوى أو المدة المقررة له، فإن قرار التعليق كان سيُتخذ بسلاسة، بالإضافة إلى إمكانية تقييم المدخلات وفق وسائل عديدة لأن عملية الإدخال نفسها تمت بالشكل الصحيح. 

خطوة نحو المسار الصحيح

نحن لا نعرف على وجه التحديد إذا ما كان فيروس كوفيد-19 سيساهم بأي حال في إعادة أنظمة التعليم الحكومية إلى المسار الصحيح لأهداف التعلم، لكن مع ذلك، فإن وسائل التقييم البديلة التي انتهجتها الحكومة المصرية جديرة بالتأمل.. وبالأمل في أن تكون رسالة تذكر الجميع بأننا كنا نسير على الطريق الخاطئ، فهل نبحث عن الطريق الصحيح؟ 

كمثال لذلك؛ الأبحاث المطلوبة من مراحل التعليم الأساسي، مع كافة المآخذ الاعتيادية مثل أن الطلاب لم يحصلوا على التدريب الكافي لعمل مشروع بحثي وخلاف ذلك، إلا أن نوعية الأسئلة التي احتوتها هذه الأبحاث، قادرة على أن تفعّل جزء -ولو صغيرًا- من مَلكة التفكير الإبداعي لدى الطلاب، وأن تجعلهم يدركوا مساحة أكبر، وإن لم يدركوا المساحة الكاملة، من أهداف التعلم التي ذكرناها في تصنيف بلوم.  

من المؤكد أن هذه الأبحاث لم تكن هي البديل الوحيد، وأن آليتها كان يمكن أن تختلف فتحقق نتائج أكثر إيجابية، وأدرك بشكل كبير حالة السأم العامة والتي حدثت لأسباب كثيرة، والتي منها صعوبة الوصول لشبكة الإنترنت لكل فئات المجتمع، لكن لا أحد يمكنه أن ينكر أن هذه الجائحة كانت وسيلة لبعض التغيير الذي كان مستحيلًا تمامًا قبل ذلك، ووسيلة للخروج من هيمنة الاختبارات القمعية -لأنها تقمع احتياجات المتعلم- لبعض الوقت، ونرجو ألا تكون وسيلة مؤقتة! 

نماذج الاستقامة في زمن الاضطراب 

على المستوى الشخصي، وبسبب التغييرات الحاصلة جرّاء تعليق الدراسة واستبدال الاختبارات بمشاريع بحثية، مررت بتجربة ساعدتني على تلبية احتياجاتي التعليمية وألهمتني للتفكير في إمكانية التغيير المحتملة للتعليم النظامي ما بعد الكورونا. 

 أدرس بالصف الأولى بمدرسة للخطوط العربية والزخرفة في القاهرة، والمدرسة تابعة لوزارة التعليم، وتتم اختباراتها في نهاية العام دون منتصف دراسي. وبما أنني مستجدة على تجارب التعليم الفني في مدرسة نظامية، ولي مآخذي الدائمة على التقييد في الاختبارات في المدارس المصرية، كان لدي تساؤل طوال الوقت: كيف يتوجب عليّ أن أذهب إلى لجنة اختبار، لساعتين أو ثلاث، وألتزم الصمت، وأتقيد بمساحة مكانية معينة، بينما أنا أُختبر في مواد تعتمد بشكل أساسي على الشغف وعلى الإبداع؟ وماذا لو أفسدت أوراق الاختبار؟ وماذا لو احتجت للإعادة؟ 

أسئلة كثيرة كنت أدرك أنها ستظل بلا جواب. وأنني سأضطر للخضوع للاختبار كما هو إن أردت الاستمرار في المدرسة، حتى كانت الكورونا! تم إلغاء الاختبارات، واستبدالها بمشروع بحثي في مادة اللغة العربية وفي المواد النظرية الأخرى للصفوف الأعلى، وأن يختار كل طالب جملة لكل نوع من أنواع الخطوط، كما يرسم لوحة زخرفية وفق أسس معينة، وكان هذا أسعد ما حدث لي في التعليم النظامي منذ عهدته! 

 كان لدي الوقت الكافي، والاختيار، وإمكانية تكرار التجربة، والاستعانة بوسائل تعلم مناسبة لنمط تعلمي لإنجاز المطلوب على الوجه الأمثل، ببساطة كان لدي الحرية. وتحققت الغاية النهائية بأن يتأكد معلمونا في المدرسة بمدى استيعابنا لمقررات العام. 

أدركت وقتها شيئًا من نماذج الاستقامة في زمن الاضطراب والوباء، والتي تنبئ بعالم بعده يعي -ولو بشكل قليل فقط- أن هناك الكثير من الخلل في القطاع التعليمي، يؤثر علينا يوميا وعلى تأهيل الأجيال على مستوى نفسي ومعرفي عادل، مع أن إمكانية تغييره ليست بالصعوبة التي ندعيها على الدوام، ولكننا لم ندرك ذلك إلا مع حالة الاضطرار الحالية. 

ورجائي لا ينقطع، في تعليم نظامي حر، يهتم بالمدخلات، ويحسن تقييم المخرجات على وجه إنساني لا مادي.