
لأن الإنسان بطبعه يسأم المتكرر
أحثّ نفسي على الصحو كل يوم بالتفكير في أي شيء يبدو أكثر حماسة من النوم. في الغالب لا أجد، فكل ما لدي هو مهام اعتيادية: أرتب المنزل، أطهو بعض الطعام، أتأكد من أن روابطي الاجتماعية لم تنقطع بعد...
تزعجني الرغبة المتقدة في أن يكون هناك شيء غير اعتيادي في يومي، لكنها رغبة طبيعية لا تنفك عن الإنسان المعاصر، الذي يفرض عليه عالمه أن لا يظل في نفس الإطار لمدة محددة من الزمن، وإلا بدا متخلفًا غير متطلع، دون حتى وضع اصطلاحات واضحة لذاك التطلع ماهيةً وفائدة! وكثيرا ما يحبس الواحد منا نفسه في دائرة البحث عن الجديد حتى يضيّع المعتاد.
لا أعتقد أن الارتباط الوحيد بين حاجة الإنسان أن يستيقظ في يوم لا يشبه سابقه هو ارتباط بنظريات علم النفس التي تتمحور حول طبيعة البحث عن الإثارة في العقل الإنساني. وإن كان الممل الذي تعزو إليه تلك النظريات سلوك السأم هو مساهم كبير في هذا. لكن الأمر مرتبط أكثر بشعور الإنسان حول جدوى ما يفعل في حياته، والمعنى الذي يقدمه لمن حوله من أفعاله اليومية "العاديّة". فالعالم الحديث يغذي الأب بعمق بأن تكسبه لبيته لا يعطيه المعنى الكافي في حياته، ويزرع في الأم التي لا تقرن نفسها بعمل خارج المنزل فكرة راسخة بكونها عاطلة عن الحياة، ويضع صورة متلاشية للأسرة التي تترابط في حدود المنزل، دون مغامرات يومية استثنائية، فهذه الأسرة كأنها لم تكن، ليست جزء يعتد به من هذا المجتمع الذي يعطيه المصاب الجلل شعورًا بالانتشاء لا يحققه له دوران الأيام حوله في هدوء!
يمكنني بشكل سهل هذه الأيام أن ألتقط من نفسي رغبات متعددة في تحويل المعتاد إلى شيء أكثر جاذبية. هذا هو النتاج الأول للتأثر بضغط المحيط في أن تكون استثنائيا لتنجو من جزع محتمل غير معلوم أسبابه، وهذا هو الطريق الأول الذي نسلكه نحن "العاديين" حين نكتشف أن الطرق الاستثنائية الشهيرة حولنا لن تناسبنا بأي حال من الأحوال.
دواعٍ كثيرة تجعل الحياة اليومية غير جذابة للعيش للكثير منا، لكننا لا ندرك أن شعورنا ذلك ليس لأنها تفتقد شيئًا ما، أو تفتقد تحديدا، شيئًا لا نقدر على توفيره لإزاحة شعورنا. حين نعيد النظر من سقف الدنيا، سنجدها أصغر كثيرًا، وأوضح كثيرًا. ما الذي يدفعنا لعمل أي شيء؟ ما هي النقطة القصوى التي نرغب في الوصول إليها من هذا السعي الذي يشبه نفسه؟
حين نستذكر الإجابات البدهية في الحياة، نكون أقدر على عدم رفضها لكونها لا تحقق لنا قدر المتعة المتصوَّر والمتوقع منها. ذلك القدر الذي ترسمه لنا منصات التواصل، وحيوات التافهين، واستهلاكية الشركات، وسيولة الأخلاق والقيم في الجوار القريب الذي نتأثر منه كل لحظة.
شخصيا، أدرك أنني سأظل أبحث كل يوم عن المثير، لأن الإنسان بطبعه يسأم المتكرر، ولو كان ذلك المتكرر هو الذي يبقي لحياته معنى مستمرًا لا يخفت في وقت من الأوقات. لكنني على الأقل سأدرك في عمقٍ ما داخلي، بأن كل مثير أبحث عنه، هشٌّ بالشكل الكافي الذي يجعله ولو كان موجودًا، فإنه لن يرضيني لوقت طويل، حيث ستغلبه النزعة إلى غيره، لأن الأصل هو ألا أسير وراءه وإنما أستمسك بالرشد في النظر، حيث يكون المرء جلِدًا كفايةً ألا يجعل هواه إلهه.